الثلاثاء 05 سبتمبر 2023 الساعة 04:39 م

مقالات وآراء

خلوةٌ شرعية في سجن غزة المركزي

حجم الخط

كنتُ واحداً من ضمن وفد كتاب ومحللين وأساتذة جامعات نُشارك في جولةٍ تفقدية بناء على دعوةٍ كريمةٍ من وزارة الداخلية الفلسطينية في غزة، وهي جولةٌ أشارك فيها لأول مرة في حياتي، بل وألمس فيها مصداقية وشفافية لم أكن أتخيل مثلها. لا أتحدث بكلماتٍ ترويجية أو أبغي من ورائها مصلحةً من الجهة الداعية، إنما “الحق أحقُ أن يُقال” والحقائقُ التي شاهدتها بعيني أبهرت كل من حضرها وإن أصر البعض منهم المجاهرة بعدم الرضى والبحث عن الثغرات، وهذه عادة البعض في إصراره العنيد لرفض كل إنجاز نلمسه في أوطاننا العربية ونُحاول من خلاله تلمس بصيص أمل يمكن أن ينقلنا لشق سُبل أخرى نحو الرفعة والريادة.16

 

من المحطات التي استوقفتنا خلال هذه الجولة والتي استمرت من بداية النهار حتى ساعات المساء فيه، سجن غزة المركزي أو ما يعرف باسم “الكتيبة”، وهو أكبر وأهم مراكز التوقيف التي تُشرف عليها وزارة الداخلية التي أشرفت عليها حركة “حماس” منذ فوزها بأغلبيةٍ في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في العام 2006م، ولا تزال تقوم بهذه المهمة مع إصرارٍ عنيد من قبل حكومة التوافق الوطني التي يرأسها الدكتور رامي الحمد الله بإدارة الظهر لمليوني فلسطيني وزيادة يقطنون قطاع غزة ولا يتلقون الخدمات المفترضة من قبل تلك الحكومة.

 

قبل الدخول لبوابة سجن غزة المركزي كانت الصورة قاتمة في عقلي، وهي صورة نمطية تشكلت بفعل الشائعات التي كُنا نتلقاها باستمرار من قبل المناهضين والمتربصين أو الأعداء لتجربة حركة “حماس”، ولعل ما عززها غياب الصورة الدقيقة لإنجازات كبيرة حققتها الحركة داخل تلك السجون وخلل في الإعلام الحكومي الذي لم يقم بهذه المهمة كما ينبغي.

 

في داخل السجن استمعنا للعقيد فؤاد أبو بطيحان مدير عام مديرية التأهيل والإصلاح في وزارة الداخلية، حيث استعرض البرامج المختلفة التي تقوم بها إدارته لصالح المئات من النزلاء القابعين في السجون، ولم يغفل الحديث بشيء من المرارة عن قلة الإمكانيات التي أظهرت من خلال الأرقام بأن حجم الإنجاز مقارنة بالميزانيات المتوفرة لا تشكل سوى معجزة أو خرافة صعبة التحقق في مكان آخر باستثناء غزة.

 

وخلال الجولة تمكنتُ من تسجيل العديد من النقاط داخل السجون التي تُشرف عليها “حماس” من خلال الأجهزة الأمنية والشرطية التي شكلتها بعد فوزها بالانتخابات البرلمانية الفلسطينية الثانية، ويمكن حصر ما شاهدته في التالي:

 

1- في سجن غزة لا يتعامل السجان مع النزيل بنفسية المُجرم، وإنما العلاقة الناشئة بين الطرفين تشكل صداقة بين إنسان وإنسان آخر ارتكب خطأ تحت أي ظرف ويقضي الجزاء المناسب ليعود إلى المجتمع مرةً أخرى رافعاً هامته وليس مسحوقة كرامته.

 

2- في سجن غزة لمسنا النظام والنظافة والترتيب مع غياب الإمكانيات المناسبة.

 

3- في سجن غزة وجدنا شرائح مختلفة من الناس، فمنهم: الطبيب، المدرس، الصحفي، مصفف الشعر وقارئ القرآن.

 

4- في سجن غزة يتعلمون القرآن الكريم وأحكامه ويحفظون آياته، ويتعلمون الحديث والسيرة النبوية فتتبدل أخلاقهم، ويتحول النزيل لشخص نافع لنفسه ومجتمعه.

 

5- في سجن غزة يُعلم السجين زميله السجين، وهكذا تعلموا جغرافية وتاريخ فلسطين وأجادوا فن قص وتصفيف الشعر، وعرفوا كيفية إجراء الإسعافات الأولية.

 

6- في سجن غزة رأيت محكوماً بالإعدام يمارسُ كرة القدم في ملعب مخصص لذلك فوق سطح السجن.

 

7- في سجن غزة دخلتُ لإحدى الغرفة، فوجدت على يميني حوضاً به أسماك زينة وبجانبها تلفزيون ومدفأة وأسرة مرتبة.

 

8- في سجن غزة صافحتُ عدداً من السجناء، فابتسموا وكانت السعادة بادية على وجوههم وتعبيراتهم التي لم تُخفِ ذلك.

 

9- في سجن غزة يعكفُ العشرات على نسخ القرآن الكريم ضمن مشروعٍ تقوم عليه جمعية دار القرآن الكريم والسنة، ليتم بذلك صناعة إنسان حُر ومبدع يفيد مجتمعه وينهض بنفسه.

 

10- في سجن غزة يعلمون السجناء “ضمن الإمكانيات التي تكاد معدومة” على الزراعة وصناعة التُحف الفنية والعديد من الأدوات التي يحتاجها السجين داخل سجنه.

 

11- في سجن غزة تقوم مصلحة السجون وبدعم من العديد من المؤسسات بتوفير قسائم مساعدات عينية وغيرها لعوائل السجناء؛ حتى لا يتحولوا ناقمين على المجتمع وأعداء له نتيجة اعتقال الأهل.

 

12- في سجن غزة يخرج غالبية السجناء في رحلات بحرية وغيرها بصحبة أهلهم وأطفالهم ويمارسون ألعابهم، وتتواصل العلاقة بينهم خارج قضبان السجن.

 

13- في سجن غزة يعمل العديد من النزلاء على تصوير وإنتاج فيلم وثائقي يرصد حياتهم ومعيشتهم داخل المعتقل.

 

14- في سجن غزة السجان يبتسم ويصافح، بل ويبحث عن ممولين يسددوا أموالا لأصحاب الذمم المالية ليتم الإفراج عنهم ولا يبقوا قابعين داخل السجون.

 

15- بل إنه في سجن غزة غرفة مخصصة للخلوة الشرعية التي يتمتع بها النزيل الممنوع من الخروج بإجازة لخطورة وضعه، ووفق برنامج يحفظ كرامته وزوجته يلتقي بزوجته في تلك الغرفة كل عدة شهور مرة واحدة، في مشهد يغيب عن بلادنا العربية بإنسانيته وعدالته.

 

تلك بعض الصور التي حفظتها عيني داخل سجن غزة المركزي، وهي صورٌ كان مشهدها سيكون أكثر جمالاً لو أن أصحاب المال في بلادنا كان لهم سهمٌ في رفعة بلادنا بتوجيه زكاة أموالهم لهذه الأماكن ودعم مشاريع تصنع من النزيل إنساناً صالحاً، وتشكلُ منه لبنة بناء في جدار أوطاننا بدلاً من تركه ليخرج دون تغيير دوافع جرم ارتكبه فاستحق دفع الثمن من سنوات عمره، فالزكاة ينالُ أجرها المُنفق في سُبل الخير الكثيرة وليست محصورة فقط في بناء مسجد رغم الاحترام لكل من يقوم بذلك.