الأربعاء 06 سبتمبر 2023 الساعة 04:20 م

مقالات وآراء

مجتمعنا العربي... أَزمة فِكر !!

حجم الخط
تَعيش مجتمعاتنا العَربية قاطبة أزمة فكرية تَعجُ في جَسدها السَقيم وتَنخرُ في عِظامها نخراً لتَهتِك البنيان الضَعيف، فهي تُعاني من أزماتٍ طاحنةٍ على جَميع المَناحي ؛ أَزمات في فِكر العلوم والثقافة واللغة والتربية والإعلام ، والإبداع، والقِيم، والتُراث، كما تُعاني من  الفقر الشديد في الفلسفة و الثقافة و حِوار الذات وغيرها من العلوم الجَمة ..
 
* لقد أصبحت أمتنا العربية الإسلامية مَحطاً لسفاهات الغَرب وتعليقاتهم بوصف العرب ' شعوباً مُتخلفة ' عن ركب الحَضارة والمَدنية ، ووصم امتنا الإسلامية العَربية بمُصطلحات تَؤيد الأفكار والنَظريات الغَربية البائدة ، بهدفِ تَثبيت هذه الأفكار وإلصاق صِفات الدَمار والخَراب بمُجتمعنا العَربي ، فهي جُزء من مُخطط عَالمي كَبير يُحاك ضِد الإسلام وبِلاد العَرب ، ويَهدف إلى تَدمير الإسلام وتَهويد فِكره وثَقافته الأصيلة ومَسح قِيمه ومَبادئه العالمية الخَالدة من عقول وقلوب أبنائه ...
 
* فقد استَعمرنا الغَرب الذي كَان يَحيا عُصور الظُلمات ، فيما شَيدت الحَضارة الإسلامية الخالدة الأساطير والإمبراطوريات الفِكرية العَريقَة التي بَنت عَالمنا الحَديث وحَضاراته العلمية التكنولوجية ، فما نَحن به الآن من تَطور وثورة هَائلة في عَالم الاتصالات إنما أَساسه الفِكر الإسلامي المُنير وعُلماء وجَهابذة الإسلام العظيم  ، فَما حَققه ' الفُرس ' و'المِصريون' و'الهُنود' و'الأَتراك' من حَضارات، إنما بفضلِ النَهضة الفِكرية الإسلامية الكُبرى، فلم يُسبق لَهم تحقيقها خلال حَضاراتهم التي سَبقت الإسلام العَظيم ..
 
* إن فتحَ ' الأندلس' كَان له فضلٌ كبيرٌ في اتسَاع رِقعة انتشَار الحَركة العِلمية الإسلامية ، حيث ظَهر عُلماء في كَافة مَجالات الشَريعة والحَياة والاجتِماع والطِب والفَلك و الجَغرافيا، والهَندسة والرِياضيات والكِيمياء والعَمارة والمِلاحة والسُفن والزَخرفة وفَنِ التَصوير وغَيرها من العُلوم ، فكُل هذه العُلوم نَمت في 'الأندلس'  وانتَقلت إلى أَوروبا،فَعلى أَكتافِ عُلومنا الإسلاميةِ قامت حَضارة 'أوروبا' الحَديثة ، و يَذكر المُؤرخ الفرنسي ' رينو'  حَال أُوروبا قبل الإسلام، فَيقول : ' طَفحت أُوروبا في ذلك الزَمان بالعُيوب والآَثام، وهَربت من النظافة والعِناية بالإنسَان والمَكان، وزَخرت بالجَهلِ والفَوضى والتَأخرِ، وشُيوعِ الظُلمِ والاضطِهادِ، وفشت فِيها الأمية ' ...
 
* غَيّر فَتح ' الأندلس' ودُخول الإسلام العَالم كثيراً واسهَم في التَطور الكَبير الذي نَحياه في عَالمنا المُعاصر ، فقد عَلَّم المُسلمون الأوربيون مَبادئ وعُلوم السُلوك الرَاقي، فِيما انتَقلت النظافة إلى 'أُوروبا'،وتَغيرت سُلوكيات الغَرب من خِلال الإِسلام ، فَمثلاً ' كان الأوروبيين المَوجودين في شَمال إسبانيا قَبل دخول الإسلام لا يَغتسلون إلا مَرة أو اثنتين في السَنةِ ،ويَعتَبرون ذَلك من البَركةِ! إلى أَن وَجدوا المُسلمون يَتَوضَئون خَمسُ مَراتٍ في اليَوم ويَغتسلون في مُناسبات عَديدة ' ، كَما نَقل الإسلام للغَرب ـ المُتخَلف ـ فن التَعامل بالرَحمة بين أفراد الأُسرة ، فيما بَدأت الأسرة الأُوروبية تَتَأثر بالجَو الإسلامي، فَحتى النَظام والإضَاءة في الشَوارع ونِظام الرَي والصَرف في الزِراعة ، تَغّير بفعلِ الإسلام ، كَما أَصبحت ' الأندلس ' الدولة الأولى في العَالم في عَهدِ عبد الرحمن الناصر ' رحمه الله ' والذي أعلن الخلافة الأموية في الأندلس، وأصبح أعظم مُلوك 'أوروبا' في القُرون الوِسطى بلا مُنازع ، لدَرجة أَن الأسبان سنة 1961م احتفلوا بمرورِ ألفَ سنةٍ على وفاته اعترافًا بفضلهِ على الحَضارةِ الأوروبية والإسبانية ..
 
* لَم تَقم الحَضارة الإسلامية عَلى أَساس من التَميز بين شُعوب العَالم وتَمييز العَرب وتَسلطهم على بقيةِ الأمم, بل قَامت على الأُخوة الإسلامية والمَحبة والتَسامح والعَدل بين النَاس ، فلم يَنتشر الإسلام بحدِ السَيف ، بل بالمبادئِ الإسلاميةِ السمحاءِ والرسالةِ الكَونية الخالدة ، كَما هيأ الإسلام بيئة مُناسبة لتَنوع الإبداع الفِكري والصِناعي لدى مُختلف الشُعوب الإسلامية قاطبة ، وكَان الإسلام بسموِ مَعانيه وسَلامة فِطرته وشُموليته يَجتذب النَاس والشُعوب ويصبِغهم بهويته, حَتى أولئك الذين قاموا بحرب بلاده وتدمير مُدنه كالمغول دخلوا في الإسلام أفواجاً, وكان لهم دور في نقل الحضارة الإسلامية إلى مَرحلة جَديدة ، فقد قَدمت الحَضارة الإسلامية للعَالم نَموذجاً شاملاً مُتوازناً للحياة, فَسمت بالغرائزِ والشهواتِ, ووازنت بينَ حَاجات الجَسدِ والرُوح, ووثقت عُرى التَواصل الإنساني بين أفراد المُجتمع حُكاما ومَحكومين, أَغنياء وفقراء ، ضُعفاء وأَقوياء ..
 
* بَلغت الحَضارة الإسلامية الفِكرية حَداً من السُمو جَعل الأعداء يتأثرون بها كما حدث في الحملات الصليبية ، إذ كانت أحد الأسباب في ازدهار الحضارة الأوروبية وخروجها من عُصور الظلام ، كما امتازت حضارة الإسلام بوفرة النماذج المثالية في شتى المجالات, فلا يكاد يحصى عدد المبدعين من العلماء والعباد, والحكام, والمفكرين, والأدباء المصلحين ، لهذا لما دخل الإسلام هذه الشعوب لم يَضعها في بَيات حَضاري ولَكنه أََخذ بِها وَوضَعها عَلى المِضمَار الحَضاري ،لتَركُض فيه بِلا جَامح بِها أو كَابح لها ، وكانت مَشاعل حضارة الإسلام تبدد ظلمات الجهل وتنير للبشرية طريقها من خلال التمدن والتطور الإسلامي ، فبينما كانت الحضارة الإسلامية تموج بديار الإسلام من الأندلس غرباً لتُخوم الصِينِ شرقاً كانت 'أوروبا' وبقية أنحاء المَعمورة يَعيشون في ظَلام حَضاري دَامس وجَهل مُطبق كَبير ، كما امتدت هَذه حضارة الإسلام بَعدما أَصبح لها مَصارفها ورَوافدها لتَشع علي الغَرب وتَطرق أَبوابه ، فَنهل منها معارفه وبهر بها لأصالتها المعرفية والعلمية ، مما جعل الغرب يَشعر بالدُونية الحَضارية والفكرية والاحتقار، فثار الكَهنوت الديني ووصاية الكنيسة وهَيمنتها على الفكر الإسلامي الخالد حَتى لا يَشيع وينتشر ويقف في وجه ظُلمات الكَنيسة وجَرائمها الكَبيرة بحقِ الغَرب ، لكن رَغم التَعتيم زهت الحَضارة الإسلامية وشاعت وانتشرت في أرجاء أوروبا ..
 
 لقد انبهر فلاسفة وعلماء 'أوروبا' كثيرا من الحضارة الإسلامية وهذا الغيث الحَضاري الوفير الذي فاض عليهم ، فثاروا علي 'الكنيسة' وتَمردوا عَليها وقَبضوا على العُلوم الإسلامية والفكر القويم من يقبض علي الجمر خشية هيمنة 'الكنيسة' التي عقدت لهم مَحاكم التَفتيش والإحراق ،ولكن الفكر الإسلامي بقي صامدا وتملك منهم وأصبحت الكُتب الإسلامية التراثية والتي خلفها عباقرة الحضارة الإسلامية فكراً شائعا ومبهراً في الغَرب ، فَتغيرت أَفكار الفَلاسفة الغَربيون وغيّرت 'الكَنيسة' من فِكرها ومَبادئها لتُساير التَأثير الإسلامي عَلى الفِكر الأُوروبي وللتصدي للعلمانيين الذين تخلوا عن الفكر 'الكنسي' وعَارضوه وانتقدوه علانية .
 
*  لقد كانت كانت صِناعة الكتب منتشرة في كل أنحاء العالم الإسلامي فخلال قرني من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت الحضارة الإسلامية ملئ بالكتب والمؤلفات، وكانت المكتبات الملكية والعامة والخاصة توجد في كل مَكان ،وكان الكِتاب الذي يَصدر في بغداد أو دمشق تَحمله القَوافل التَجارية فَوق الجِمال ليَصل لقُرطبة بأسبانيا في غُضون شهر ، كما كانت اللغة العربية هي اللغة العلمية والثقافية في شتي الديار الإسلامية ...
 
* ومن أهم الأشياء التي يذكرها التاريخ مكتبة قرطبة ثم بعد ذلك المكتبة الأموية ، وقد كانت مكتبة قرطبة المكتبة الثالثة على مستوى العالم تضم نصف مليون كتاب في وقت لم تكن فيه طباعة، وبهذا فالرقم مذهل ، ولو بحثنا عن المكتبة الأولى والثانية في العالم لوجدنا أن الأولى كانت مكتبة بغداد التي أغرقها التتار في نهر دجلة، والثانية مكتبة دار الحكمة في القاهرة، والثالثة مكتبة قرطبة التي اختفى ذكرها في التاريخ؛ لأنه عندما أُسقِطت قرطبة بواسطة الصليبيين سنة 636 من الهجرة قبل سقوط بغداد بعشرين سنة فقط أحرق الصليبيون كل الكتب الموجودة في مكتبة قرطبة لدرجة أن ' كمبيس ' ـ وهو أحد القساوسة في الجَيش الصليبي ـ أحرق في يوم واحد ثمانين ألف كتابٍ في أحد مَيادين قُرطبة، وعِندما أسقطوا ' أشبيلية ' سنة 646 هـ بعد قرطبة بعشر سنوات أحرقوا كل الكتب في أشبيلية، لاعتقادهم الجازم أن نشأة هذه الأمة وصدارتها وقُوتها تَكمن في عُلومها سَواء كَانت علوم الشَرع أو عُلوم الحياة، ومَادام الاثنان مَوجودين فَستظل هَذه الأمة قَوية وعِندما أَحرق الصَليبيون هَذه الكتب وأَغرقوها أَرادوا قَطع تلك الأمة عن جذورها، ولكنهم جَهلوا أن تلك الأمة لا يمكن أن تموت ...
 

* لقد حققت 'الصهيونية' أهدافها في وئد المشاريع الفِكرية العَربية في مُجتمعاتنا وتَضليل الشَباب وتَدميرهم من خِلال السُموم التي تَسعى باستمرار في بَثها ونَشرها بَين الجِيل ، كما أقام الاستعمار الكيان الصهيوني ' إسرائيل ' على أرض فِلسطين سَرطاناً عنصرياً غربياً لقطع وِحدة الوَطن العَربي ولتَكريس التشرذم ولتَأييد القُطرية ،ولإعاقة أَية مُحاولة للنهضة التي تعيد الحياة والتكامل إلى أعضاء جسد الأمة الإسلامية ، كما هدد الكيان 'الإسرائيلي' كافة مَشاريع النَهضة الفِكرية والثَقافية والصنِاعية ...إلخ ، فحضارتنا الإسلامية حضارة عريقة ومليئة بالكتب والمؤلفات والمخطوطات وزاخرة بالعلوم الكبرى ، فحتى الغرب يَشهد لعراقة الحضارة الإسلامية ... فلماذا تشهد بلادنا ومجتمعاتنا الإسلامية أزمة فكرية ؟؟

 * إننا بحاجة ماسة لإعادة تأهيل الفكر العربي والعقول والأدمغة العربية ، فأكثرية السلاح المعرفي والفكري للعقول في وطننا العربي بات دون الحد الأدنى اللازم لمجتمع المعرفة والتعلم والفكر المنير ، فنحن نحتاج لدراسة بيئة العَقل العَربي وتَكوينه والعَمل على ضخِ دماءٍ فكريةٍ جديدةٍ به ، وضَرورةِ استغلال تكنولوجيا المعلومات كأداة لتعميق الفكر الثقافي في مجتمعنا العربي، واستغلال الفكر الثقافي كأداة لتوطين تكنولوجيا المعلومات في التربية العربية والعلوم الحياتية، من خلال رسم استراتيجيات عدة في السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام والتربية والمعلومات ... إلخ